في تطور دبلوماسي لافت شهدته منطقة الساحل الإفريقي في أوائل أبريل 2025، أعلنت مالي والنيجر وبوركينا فاسو استدعاء سفرائها من الجزائر للتشاور، في خطوة تعكس تصاعد التوترات مع النظام الجزائري. جاء هذا القرار على خلفية إسقاط الجيش الجزائري لطائرة مسيرة تابعة للجيش المالي، وصفتها الدول الثلاث بـ”العمل العدائي”، مما أدى إلى تفاقم الأزمة بين هذه الدول والجزائر. هذا الحادث ليس مجرد نزاع عابر، بل يكشف عن فشل استراتيجيات النظام الجزائري العسكري، المعروف بـ”الكابرانات“، في تحقيق طموحاته الاقتصادية والسياسية، لا سيما في مشروع أنبوب الغاز العابر للنيجر، ويعزز عزلته الإقليمية نتيجة سياساته الداعمة للانفصاليين والانقسامات في دول الجوار.
بدأت الأزمة عندما أعلنت الجزائر في الأول من أبريل 2025 إسقاط طائرة مسيرة مسلحة اخترقت مجالها الجوي لمسافة محدودة، وهو ما اعتبرته دفاعاً عن سيادتها. في المقابل، أكدت مالي، بدعم من النيجر وبوركينا فاسو، أن الطائرة كانت في مهمة استطلاعية لمكافحة الإرهاب داخل أراضيها، وأن إسقاطها يمثل “عملًا عدائيًا متعمدًا” من النظام الجزائري. لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل ردت الجزائر باستدعاء سفيريها من مالي والنيجر وتأجيل تعيين سفيرها الجديد في بوركينا فاسو، مع إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات القادمة من مالي أو المتجهة إليها، في تصعيد يعكس عمق الخلاف.
هذه التطورات ليست مفاجئة بالنظر إلى تاريخ العلاقات المضطربة بين الجزائر ودول الساحل. النظام الجزائري، الذي يقوده العسكر منذ عقود، لطالما اتُهم بدعم الحركات الانفصالية، مثل جماعات الطوارق في شمال مالي، و”البوليساريو” ومساعيه لتقسيم المملكة المغربية، كجزء من استراتيجيته لإضعاف دول الجوار وفرض هيمنته الإقليمية. هذه السياسة، التي تهدف إلى خلق كيانات ضعيفة وتابعة، أثارت غضب دول الساحل، التي باتت ترى في الجزائر تهديدًا لاستقرارها بدلاً من شريك موثوق.
على الصعيد الاقتصادي، كان مشروع أنبوب الغاز العابر للنيجر أحد أحلام النظام الجزائري لتعزيز موقعه كمركز إقليمي للطاقة. يهدف المشروع إلى نقل الغاز من نيجيريا عبر النيجر إلى الجزائر، ثم تصديره إلى أوروبا، في محاولة لمنافسة المبادرة المغربية المماثلة التي تربط نيجيريا بالمغرب عبر دول غرب إفريقيا. لكن هذا الحلم اصطدم بواقع التوترات السياسية والأزمات الدبلوماسية مع الدول التي يمر عبرها المشروع، وفي مقدمتها النيجر.
قرار النيجر، إلى جانب مالي وبوركينا فاسو، استدعاء سفرائها من الجزائر يشكل ضربة قاصمة لهذا المشروع. فبدون تعاون النيجر، التي تمثل حلقة وصل جغرافية حاسمة، يصبح المشروع غير قابل للتنفيذ عمليًا. هذا الفشل لا يقتصر على الجانب التقني، بل يكشف عن عجز النظام الجزائري في بناء تحالفات إقليمية مستدامة. في الوقت الذي تعتمد فيه الجزائر على تصدير الغاز كمصدر رئيسي للعائدات، كانت تأمل أن يعزز هذا المشروع نفوذها الاقتصادي، لكن سياساتها العدائية أدت إلى نتائج عكسية، مما يهدد بمزيد من الخسائر المالية والاستراتيجية.
الأزمة الحالية تضع النظام الجزائري في موقف حرج، حيث يتزايد عزله إقليميًا ودوليًا. فبالإضافة إلى التوتر مع دول الساحل، تعاني الجزائر من علاقات متدهورة مع المغرب، الذي يتهمها بدعم “البوليساريو”، ومع ليبيا وتونس بسبب خلافات حدودية وأمنية. حتى فرنسا وإسبانيا، الشريكتان التقليديتان، أبدتا استياءً من السياسات الجزائرية في السنوات الأخيرة. هذا العزل يعكس فشل “الكابرانات” في التكيف مع المتغيرات الإقليمية، حيث باتت دول الجوار تفضل التعاون مع قوى أخرى مثل المغرب أو تركيا أو روسيا.
دعم الجزائر للانفصاليين، سواء في مالي أو غيرها، لم يعد مجرد أداة سياسية، بل تحول إلى عبء يفاقم أزماتها. ففي الوقت الذي تسعى فيه دول الساحل لتوحيد جهودها ضد الإرهاب والانفصالية عبر تحالفات مثل “كونفدرالية دول الساحل”، تُظهر الجزائر موقفًا معاكسًا يثير الشكوك حول نواياها. اتهامات مالي للجزائر بـ”رعاية الإرهاب الدولي”، رغم قسوتها، تعكس مدى تدهور سمعتها في المنطقة.
أخيرا، إن استدعاء مالي والنيجر وبوركينا فاسو سفراءها من الجزائر ليس مجرد رد فعل على حادثة الطائرة المسيرة، بل مؤشر على انهيار سياسة خارجية قائمة على العداء والهيمنة. فشل مشروع أنبوب الغاز، وتفاقم عزلة النظام الجزائري، هما نتاج طبيعي لنهج “الكابرانات” الذي يراهن على زرع الفتنة والانقسام في دول الجوار بدلاً من بناء شراكات تعاونية. في ظل هذا الواقع، يبدو النظام الجزائري متهالكًا أكثر من أي وقت مضى، محاصرًا بأزمات داخلية وخارجية تهدد بتقويض ما تبقى من نفوذه. إذا لم يعد هذا النظام النظر في سياساته، فقد يكون مصيره مزيدًا من العزلة والانهيار، في منطقة تتطلع إلى الاستقرار والتكامل بدلاً من الصراع والتفرقة.